Search This Blog

11 April 2018

كتاب نُون النسوة للناقد الدكتور محمد دخيسي ابو اسامة


ٌ





أنهار عطية، البحث في (البحث عن زرزورة)
الرحلة عبر الصحراء للبحث عن زرزورة؛ هل يمكن إدراجها ضمن موضوع الأسطورة وما يرتبط بالصحراء من أخبار تكون في الغالب خرافية؟؟
هل يستطيع القدر أن يجمع بين الباحث عن زرزورة والبحث عن الوجود الثاني للإنسان؟؟
بمجرد بداية الرواية (البحث عن زرزورة) للكاتبة المصرية أنهار عطية؛ انتقل إلى ذهني ما قرأته سابقا فلدى الروائي الليبي إبراهيم الكوني، ومن حضور الرحلة والصحراء في إبداعاته. فالمؤكد أن الصحراء بشساعتها، وحبلها بالأسرار والخبايا، كانت رديف سلطة الإنسان على ذاته، فقد اختار إبراهيم الكوني أن يجعل من الصحراء قمقما يأوي إليه الإنسان حين تضيق به الحياة مع البشر، فيستلذ عظمتها ويأنس وحوشها، لكن وجود الإنسان المتوحش القادم من الحضارة المدينية أو الحضارة الأوربية ينكص هذه العلاقة، فيبعد الحيوان ويذل الإنسان، ويرمي بأمن وأمان الودان في مجاهل الصحراء. لذلك يعتمد إبراهيم الكوني عملية السرد بنيةً لتخطي عوائق الترابطات اللاواقعية بين المكان/ الصحراء، والإنسان/ الحيوان، فنجده في عدد كبير من رواياته: "يدمج السرد نبذا متناثرة من الأخبار والوقائع، والحكايات الأسطورية الخرافية، وجملة من المأثورات الشفوية القبلية أو الدينية في الصحراء، فثمة تركيب متعدد لكل شيء، وإدراجه بعالم تخيلي صحراوي كبير، تمكنت المدونة السردية للكوني من ترتيب معالمه وفضاءاته وعناصره."
في ظل هذا البحث عن الوجود الثاني، نقف عند أنهار عطية التي تعطي الانطلاقة لرحلتها من الإهداء، وهو من المصاحبات التي تركز فيه على القصدية والغاية من الرواية. وبما أن الإهداء يكون لأعز شخص؛ فإن أنهار عطية خلدت به صورة الرحلة التي تميز عملها. تقول في بداية الإهداء: "إلى روح الأمير كمال الدين حسين الحرة، التي جابت الصحراء بقلب المغامر لا بعقل الأمير."
ومنذ هذه الانطلاقة تسلم، البطل مقود تحريك دواليب الرحلة،وتبدأها الكاتبة من النهاية: نهاية الثورة المصرية التي اقتلعت جذور القديم، وزعزعت كيان القيادة وصرحها: "وناس ثانية بتهتف يا مشير إنت الأمير.."طبعا الأمير هنا ليس هو ذاته من وطنته في إهدائها، وإنما لتصادُف الاسمين أو الاسم واللقب جعلنا نثير هذه الملاحظة، وقد شدتنا لما تحمل من معاني التناقض بين الشخصيتين أكثر من التلازم والترادف؛ إذ ورد اسم الأمير كمال الدين حسين ولي عهد مصر السابق في إحدى فقرات الرواية على لسان الدكتور بورست السائح الهولندي،الذي يفسر سبب تسمية الجلف الكبير الذي يعود إلى الأمير المذكور حيث أطلق الاسم على أحد المرتفعات في جنوب مصر، والجلف الكبير: "يقطعه ستة وديان... مؤخرا في 2003 تم اكتشاف مجموعة كهوف حمراء غرب الجلف الكبير..". ؛ والحديث هنا على لسان (عالية)، وهي فتاة مصرية تشتغل لدى شركة لسياحة، فضلت الرحلة ضمن وفد سياحي للصحراء بدل البقاء في مكتبها وبين أسرتها. وزرزورة واحة في مصر جلبت كثيرا من السياح للبحث عنها في فيافي الصحراء، ومن المصريين من يؤكد أنها مجرد وهم أو أسطورة لا علاقة لها بالواقع.وهذا ما أشارت إليه عالية وهي تخاطب السائح الأجنبي السابق الذكر، ذي الخمسين عاما، والذي كان سببا في عزمها المضي في رحلة لانهائية كما خططت لها في داخلها دون التلميح لها أمام الآخرين؛ فردت على تساؤلاته المبهمة بمناجاة نفسها بقولها: "أعلم هذا الشعور الغبي الذي يراودني أعلم أنه عليَّ مساعدته ولكن لا أعلم كيف؟ أعلم أنه يطارد مجرد وهم خلقته حكاوي الفراغ والفقر في الصحراء القاحلة، أناس أرادوا تمضية الوقت وخلق أحلام واقعهم المذري ولكنني أعلم أفضل من هذا، حكاوي الصحراء خلقت لتمضية الوقت ولاحقا في عصرنا السعيد لخلق فرص أكل العيش على حساب من يصدقون أحلام الصحراء من الأجانب."
ما يمكن إثارته هنا، هو البعد الإنساني للرحلة، لا من حيث العزم الذي يراود السائح الأجنبي، فيحمل الفكرة والمبدأ والقصد على التجريب والمغامرة، بل من المرأة المصرية التي تمثلها البطلة "عالية". إذ تتجاوز الراحة النفسية والاستقرار بين أهلها وخطيبها وعملها؛ الاستقرار العائلي والمهني والمستقبلي؛ فتتحدى سبل الراحة لتجتاز الحلم، وتتصدى للواقع، وهي متأكدة منذ البداية أنها رحلة دون أمل، ودون نهاية. فهي رحلة لا يمكنها أن تنتهي، دون خطة عمل، كما أنها لا تعرف لماذا اختارت هذه الرحلة، وعمَّ تبحث فيها. وهي بذلك تؤكد فعل التحدي الذي تمارسه المرأة في حياتها، فكان الإبداع دافعا قويا للتعبير عنه لتتصدى لهواجس القمع والقيد الاجتماعي في واقعها المعيش.
معنى هذا أنه لا وجود لهذا البحث إلا في مخيلة الكاتبة وعلى لسان بطلتها، بالرغم من أنه استطاعت أن تجعل من السائح الأجنبي دليلا لها، وسؤددا في محاولتها هذه. وهنا نتبين القرينة الدلالية بين البطلة "عالية" والبطل السائح؛ إذ لا تعدو المعاملة في البداية أن تكون حوار عمل، لتنتقل إلى دلالة أكثر إيحاء وأكثر تقربا؛ ما دامت الأفكار متقاربة والقصد واحد.
من خلال سير الأحداث تبرز الكاتبة هذا الترابط النفسي والدلالي بين البطلة والدكتور بريست، وقد استطاعت أن تسلط الضوء على أهمية الهدف من الرحلة في كثير من مناحي الرواية، فوفقت في هذا الأمر، وهو جانب إيجابي يحسب لها في رواية (البحث عن زرزورة) إذ لا تكترث كثيرا للتفاصيل بقدر ما تقدر المسؤولية التي تمثلها إزاء تنوير القارئ.
وهي بهذا تركز على دور التلقي الذي يقر أن القارئ الثاني يكون منتجا للحدث أيضا، ومن ثمة فأنهار عطية تختار أن تشارك القارئ في بعض التفاصيل الحدثية من خلال حوارات خارجية عادية أو أخرى داخلية عبارة عن مناجاة وسير نفسية مختلفة، أو مكالمات هاتفية تجعلها نسقا مرتبطا بالأحداث وتفسيرا لبعض مكنونات الشخصيات.
تقول عالية مخاطبة كريم صاحب الشركة، ونشير هنا أن أغلب الحوارات كانت تثبت للهجة المصرية المتداولة، وهي رؤية فنية تنساق والرؤية التي تحملها الكاتبة؛ إذ كثيرا ما يكون الهدف الحفاظ على قوة اللغة المعبرة في الواقع، والحفاظ على أهم سمات الحبكة الروائية والحوارية: "كريم، أنا مش عارفة اشرحلك لأني نفسي مش فاهمة إيه االلي بيحصلي؟ بس الرحلة دي بتناديني، ومقابلتي مع الدريت اللي عاليز يعمل نفس الرحلة مش صدفة، وجودي في الشركة مش صدفة، ولو كلها صدف يبقى كلها صدف اتجمعت عشان تحطني على طريق واحد."
فالصدفة والحقيقة مجتمعان، خلقت البطلة التي تتحدى كل الظروف لتسير والسائح الأجنبي نحو رحلة لا نهائية، أو مغامرة عبر المجهول للبحث عن الحقيقة المفقودة. أو لنقل بصورة تعبيرية أكثر تحديدا:
البحث عن زرزورة/ عالية، هو بحث عن الذات في صحراء وفايفٍ لا محدودة، تتخذ الشركة السياحة وسيلة، وأمين دليلا لها؛ تتغاضى عن باسل والديرت (الدكتور، السائح الأجنبي)، فتتشظى في الواقع، وتواصل الرحلة مع ذاتها، تكتشف الكهف والنقوش لكنها تطلب من الديرت ألا يذكر اسمها، لأن ما كانت تبحث عنه قد وجدته: فالباب الموصدة أمامها مفتوح الآن، والمفقود موصول، والحديث عن ذاتها حديث ملغز، لأنها مغيبة في واقعها وحالمة في حلم الرواية؛ بمعنى أن الذات التي كانت تبحث عنها في واقع حقيقي بين أسرتها وفي عملها وحياتها الخاصة، وجدتها أخيرا في ابعد نقطة مكانية قد يتخيلها الإنسان، وتشترك في ملحمة البحث والكشف، لكنها تتنكر لذاتها المستكشفة، لتحافظ على ذاتها الكاشفة والواصلة وصول الوجد بحقيقة الكهوف والمغاور.
نقول في آخر مقطع من الرواية وقد عنونته ب"علياء"، نسبة للعلو، والمكانة التي وصلت إليها البطلة، التي كانت تبحث عن وجودها الحقيقي، وذاتها المغيبة:" أراد الديرت أن يأخذني إلى حيث فقدت مرة أخرى؛ ولكني رفضت، قلت له إن عليك أن تبحث وحدك عنها... ابتسم وقال: "إذن أنت وجدت زرزورة"؟
قلت له: "لا أظن أنني وجدتها، ربما أحد البدو وجدني، ربما كان كل ذلك حلما، ولكن إن كان حقيقة... فزرزورة هي التي وجدتني!"
وكان هذا اتفاقاً غير معلن بيننا فليبحث وحده عنها، إن أرادت سوف يجدها وإن لم تشأ، فسوف يجوب الصحراء كما فعل كثرٌ من قبله، أما أنا فلست مهتمة بإيجادها.. لقد وجدت ما هو أهم.....
وجدتني!"
فالمقاصد من وراء هذه العنونة (البحث عن زرزروة) لا تعود بالأساس إلى الفعل المتعلق بالرحلة، والانتقال من مكان حضري آهل بالسكان والأهل والأحباب، إلى مكان قفر لا أنس فيه، ولا حبيب يسمر إليه الإنسان؛ بل بالفعل المتعلق بالشخصية، أو الفرد المخصوص بالحديث. فكل هذه الاعتبارات، جعلت الكاتبة أنهار عطية، تستجيب لمتطلبات الذات، وتختار أن تستنطق الأحداث العادية لفترة من الزمن في الحكي، وبرهة من المكان في بداية الرحلة، لتصل إلى القصد الدفين، وهو البحث عن ذاتها وسط ركام الأحداث التي تبنتها منذ أولى لحظات النص.
ومن وجهة نظر أكثر تدقيقا، نقول إن الكاتبة أنهار عطية، أو البطلة "علية" أو "علياء" كما كان يطلق عليها والدها الذي كان يحبها حبا شديدا ويرى فيها أمله وسؤدده في الحياة، إذن فكلاهما منتشٍ بروح الحرية أو الفكاك من قيود الأسرة أو قيود المجتمع عامة، واختيار الرحلة الملغومة، أو الرحلة المحفوفة بالمخاطر، أو الرحلة عبر المجهول ما هي إلا دوافع للتركيز على سلطة قوية تجعل المرأة تتناغم والواقع المعيش، وأن تستنفر ذاتها للبحث عن خلاص أكثر أماناً من الناحية النفسية، وإن كان له الخطر القوي على حياتها من الناحية الأمنية والاستقرار الاجتماعي العام.
وحين نعود إلى الاستهلال الذي وضعته الكاتبة في بداية روايتها نستنج ما يلي:
أولا- ارتباط السعادة بالتخلص من القيود؛
ثانيا- اختيار جلال الدين الرومي، سلطان العارفين، ورائد من رواد المتصوفة، الذين رحلوا بأجسادهم خدمة للتوحد الروحي والوجداني والوجدي مع الذات العليا..؛
ثالثا- اختيار الإهداء الخاص للد. أسماء عطية بقولها: "وإلى د. أسماء عطية أتمنى أن تهتدي إلى رحلتك يوما." بالرمز للرحلة المرتقبة أو المأمولة.. وكأن الحالة التي حبست أنفاسها في سير أحداث روايتها، هدف مقصود لتحرير كل امرأة من قيدها، والانتقال عبر الرحلة إلى كل هدف منشود.
رابعا- اختيار اسم علية، وهو قريب من (عطية)، دليل على اقتراب صوت المرأة في النص من صوت المؤلفة نفسها، وهي الباحثة أيضا عن العلو في الشأن، والقيمة المفترض العيش على حقيقتها.
من هنا يمكن القول إن المرأة المصرية من خلال هذه الرواية، تغير من الرؤية النمطية التي دأبنا على قراءتها وتمريرها عبر رسائل الحب والشوق لها؛ فهي الآخذة نحو التحرر من كل قيود الرجل: الرجل/ الأب، الرجل/ الحبيب، الرجل/ الزوج الذي ارتضته الأسرة لها واختارته لها، والرجل/ رب العمل، والرجل/ الصديق في العمل، والرجل/ المصاحب خلال الرحلة (الدكتور)، والرجل/ المراقب المرشد.. فالملاحظ أن أنهار عطية خطت بتؤدة لكل مراحل تشكيل الشخصيات، وجعلت الرجل ظلا ظليلا في حياة علية، منذ أو سطر في الرواية إلى نهايتها؛ وهي تتخلص منهم واحدا واحدا لاسترداد حريتها.
لذلك فقد أكدت لأبيها أنها ماضية في سير رحلتها بردة فعل قوية، لاسترداد لحريتها المفقودة، فحدثت نفسها بقولها: "هل فهمني؟ عيونه تقول إنه يفهمني لكن يقف بينه وبين البوح مليون عادة وتقليد، مليون عين تنظر إليه وتتوقع منه ما هو متوارث من آلاف السنين، مليون عين تنظر إليه متحفزة ليظهر حفاظه على ما ائتمنه عليه الأجداد، ألف عام على من الموروثات ائتمن كرجل عليها، مليون عين أولها زوج من العيون يخشى كلام الناس أكثر من حرق النار، مليون عين تنتظر رد فعله أولها عيون زوجته."
فهذا الحوار الداخلي دليل قوي على ما سقناه في هذا التحليل، وهي رؤية واضحة من خلال سير الحقائق التي بثتها الكاتبة في سياق الحديث عن الرجل في كل مرحلة من مراحل الحكي؛ فقد تمكنت من تجاوز كل واحد منهم، وبالطريقة التي ارتضتها، دون أن تزعزع شخصيتها، أو تحرك من كينونتها.
إلى جانب ذلك جاءت الرواية وفق تحقيق الحرية التي تبحث عنها المرأة خاصة في الألفية الثالثة، وبعد الثورات التي خطتها المرأة إلى جانب الرجل في جميع مراحلها دون أن يحدث هذا الأمر زعزعة كذلك في ثوابتها الاجتماعية أو الشخصية.. وكما قالت في حديثها السابق؛ ما هي إلا عيون تقليد وعادة، وجب تخطيها وتجاوزها لتحقيق الحرية.

No comments:

Post a Comment